فصل: الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 70‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 70‏)‏

{‏ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ‏.‏ قال إنك لن تستطيع معي صبرا ‏.‏ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ‏.‏ قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ‏.‏ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ‏}‏

يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام، لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه اللّه بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر‏.‏ ‏{‏قال له موسى هل أتبعك‏}‏ سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم، وقوله ‏{‏أتبعك‏}‏ أي أصحبك وأرافقك، ‏{‏على أن تعلمن مما علمت رشدا‏}‏ أي مما علمك اللّه شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع، وعمل صالح، فعندها ‏{‏قال‏}‏ الخضر لموسى ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبرا‏}‏ أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك، لأني على علم من علم اللّه ما علمكه اللّه، وأنت على علم من علم اللّه ما علمنيه اللّه، فكل منا مكلف بأمور من اللّه دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي ‏{‏وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا‏}‏ فأنا أعرف أنك ستنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة، التي اطلعت أنا عليها دونك، ‏{‏قال‏}‏ أي موسى ‏{‏ستجدني إن شاء اللّه صابرا‏}‏ أي على ما أرى من أمورك، ‏{‏ولا أعصي لك أمرا‏}‏ أي ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام ‏{‏قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء‏}‏ أي ابتداء ‏{‏حتى أحدث لك منه ذكرا‏}‏ أي حتى أبدأك أنا به، قبل أن تسألني‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ سال موسى عليه السلام ربه عزَّ وجلَّ فقال‏:‏ أي رب أي عبادك أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال‏:‏ أي رب أي عبادك أعلم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال، أي رب‏:‏ هل في أرضك أحد أعلم مني‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فمن هو‏؟‏ قال‏:‏ الخضر، قال‏:‏ وأين أطلبه‏؟‏ قال‏:‏ على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر اللّه وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى‏:‏ إني أحب أن أصحبك، قال‏:‏ إنك لن تطيق صحبتي‏.‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ فإن صحبتني ‏{‏فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا‏}‏، قال فسار به في البحر، حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال، وبعث اللّه الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى‏:‏ كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء‏؟‏ قال‏:‏ ما أقل ما رزأ، قال‏:‏ يا موسى فإن علمي وعلمك في علم اللّه كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء، وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 73‏)‏

‏{‏ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ‏.‏ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ‏.‏ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول، يعني أجرة تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت، أي دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحاً من ألواحها، ثم رقعها، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه ‏{‏أخرقتها لتغرق أهلها‏}‏ وهذه اللام لام العاقبة‏.‏ لا لام التعليل‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏ لدوا للموت وابنوا للخراب

‏{‏لقد جئت شيئا إمرا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ منكراً، وقال قتادة‏:‏ عجباً، فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط ‏{‏ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا‏}‏، يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً، وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبراً، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت، ‏{‏قال‏}‏ أي موسى ‏{‏لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا‏}‏‏:‏ أي لا تضيّق علي ولا تشدد علي، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كانت الأولى من موسى نسياناً‏)‏‏.‏  ">الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 76‏)‏">

الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 76‏)‏

‏{‏ فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ‏.‏ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ‏.‏ قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ‏}‏

يقول تعالى ‏{‏فانطلقا‏}‏ أي بعد ذلك ‏{‏حتى إذا لقيا غلاما فقتله‏}‏، وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بيده، واللّه أعلم‏.‏ فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال ‏{‏أقتلت نفسا زكية‏}‏‏:‏ أي صغيرة، لم تعمل الحنث، ولا عملت إثماً بعد، فقتلته ‏{‏بغير نفس‏}‏‏:‏ أي بغير مستند لقتله ‏{‏لقد جئت شيئا نكرا‏}‏‏:‏ أي ظاهر النكارة ‏{‏قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا‏}‏ فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسى ‏{‏إن سألتك عن شيء بعدها‏}‏‏:‏ أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ‏{‏فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا‏}‏‏:‏ أي قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة، قال ابن جرير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب، قال‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم‏:‏ ‏(‏رحمة اللّه علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، لكنه قال‏:‏ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً‏)‏‏.‏  ">الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 78‏)‏">

الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 78‏)‏

‏{‏ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ‏.‏ قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عنهما؛ إنهما ‏{‏انطلقا‏}‏ بعد المرتين الأوليين ‏{‏حتى إذا أتيا أهل قرية‏}‏، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً‏)‏ أي بخلاء؛ ‏{‏فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض‏}‏ إسناد الإرادة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة؛ فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل؛ والانقضاض هو السقوط، وقوله‏:‏ ‏{‏فأقامه‏}‏ أي فرده إلى حالة الاستقامة، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق، فعند ذلك قال موسى له ‏{‏لو شئت لاتخذت عليه أجرا‏}‏ أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً ‏{‏قال هذا فراق بيني وبينك‏}‏، أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، ‏{‏سأنبئك بتأويل‏}‏ أي بتفسير ‏{‏ما لم تستطع عليه صبرا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏79‏)‏

‏{‏ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ‏}‏

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر اللّه الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال‏:‏ إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ‏{‏يأخذ كل سفينة‏}‏ صالحة أي جيدة ‏{‏غصبا‏}‏ فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، هدد ابن بدد ، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 81‏)‏

‏{‏ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ‏.‏ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ‏}‏

عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس عن أبي بن كعب‏"‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا‏}‏ أي يحملهما حبه على متابعته الكفر، قال قتادة‏:‏ قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء اللّه فإن قضاء اللّه للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب، وصح في الحديث‏:‏ ‏(‏لا يقضي اللّه لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما‏}‏ أي ولداً أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة‏:‏ أبر بوالديه، وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، قاله ابن جريج‏.‏

 الآية رقم ‏(‏82‏)‏

‏{‏وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ‏}‏

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة، لأنه قال أولاً ‏{‏حتى إذا أتيا أهل قرية‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏فكان لغلامين يتيمين في المدينة‏}‏ قال السيهلي في الغلامين اليتيمين‏:‏ هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي‏:‏ أن اسم الملك هدد بن ندد واسم أبوي الغلام المقتول أبرأ وأمه سهواً وقد أبدلهما اللّه خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه شمعون ، كما قال تعالى‏:‏ فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك‏}‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ يعني مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما‏.‏ قال عكرمة‏:‏ كان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه، وقال ابن عباس‏:‏ كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قال‏:‏ لوح من ذهب مكتوب فيه‏:‏ ‏(‏بسم اللّه الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله‏"‏، وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجاً، وهذا الذي ذكر - وإن صح - لا ينافي قول عكرمة إنه كان مالاً، لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كان مودعاً فيه علم وهو حكم ومواعظ واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان أبوهما صالحا‏}‏ فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر

عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردت به السنّة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع فاللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما‏}‏ ههنا أسند الإرادة إلى اللّه تعالى، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا اللّه، وقال في الغلام‏:‏ ‏{‏فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة‏}‏ وقال في السفينة‏:‏ ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ فاللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحمة من ربك وما فعلته عن أمري‏}‏ أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو رحمة اللّه بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلته عن أمري، لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه

من لدنا علما‏}‏، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً بل كان ولياً، فاللّه أعلم‏.‏ وحكي في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد‏}‏، وبقول النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر‏:‏ ‏(‏اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض‏)‏، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع

الثقلين الجن والإنس، وقد قال‏:‏ ‏(‏لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي‏)‏، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف، إلى غير ذلك من الدلائل ‏"‏أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق‏"‏‏.‏

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء‏)‏ الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وقيل المراد بذلك وجه الأرض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا‏}‏ أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال‏:‏ ‏{‏تسطع‏}‏ وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً، فقال‏:‏ ‏{‏سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا‏}‏ فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال‏:‏ ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏}‏ وهو الصعود إلى أعلاه ‏{‏وما استطاعوا له نقبا‏}‏ وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظاً ومعنى واللّه أعلم‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك‏؟‏ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها، أنه يوشع بن نون وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏ 84‏)‏

‏{‏ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ‏.‏ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ‏}‏

يقول تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ويسألونك‏}‏ يا محمد ‏{‏عن ذي القرنين‏}‏ أي عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون به النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا‏:‏ سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدري ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف‏.‏ وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب البداية والنهاية‏"‏بما فيه كفاية والحمد للّه‏.‏ وقال بعض أهل الكتاب‏:‏ سمّي ذا القرنين لأنه ملك الروم وفارس، وقال بعضهم كان في رأسه شبه القرنين‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن أبي الطفيل‏:‏ سئل علي رضي اللّه عنه عن ذي القرنين فقال‏:‏ كان عبداً ناصحاً للّه فناصحه، دعا قومه للّه فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنا مكنا له في الأرض‏}‏ أي أعطيناه ملكاً عظيماً، ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحضارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه من كل شيء سببا‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني علماً وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسُّدي وقتادة والضحّاك وغيرهم ، وقال قتادة‏:‏ منازل الأرض وأعلامها، وقال عبد الرحمن بن زيد، تعليم الألسنة، قال‏:‏ كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، وعن حبيب بن حماد قال‏:‏ كنت عند علي رضي اللّه عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين، كيف بلغ المشرق والمغرب‏؟‏ فقال‏:‏ سبحان اللّه سخّر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد ذكره الضياء المقدسي عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماد ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85 ‏:‏ 88‏)‏

‏{‏ فأتبع سببا ‏.‏ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ‏.‏ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ‏.‏ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ‏}‏

قال ابن عباس ‏{‏فأتبع سببا‏}‏‏:‏ يعني بالسبب المنزل‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏فأتبع سببا‏}‏‏:‏ منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة‏:‏ أي اتبع منازل الأرض ومعالمها‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ علماً، وقال مطر‏:‏ معالم وآثار كانت قبل ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغ مغرب الشمس‏}‏ أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه، فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم، وقوله ‏{‏وجدها تغرب في عين حمئة‏}‏‏:‏ أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين، كما قال تعالى ‏{‏إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون‏}‏‏:‏ أي من طين أملس، وقد تقدم بيانه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ كان ابن عباس يقول ‏{‏في عين حمأة‏}‏ ثم فسرها ذات حمأة، قال نافع‏:‏ وسئل عنها كعب الأحبار فقال‏:‏ أنتم أعلم بالقرآن مني لكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء‏.‏ وبه قال مجاهد وغير واحد‏.‏ وعن أُبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقرأه حمئة، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة‏.‏ وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير‏:‏ والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب، ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجد عندها قوما‏}‏‏:‏ أي أُمّة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمّة عظيمة من بني آدم قال السهيلي‏:‏ هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية‏:‏ جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح ، وقوله‏:‏ ‏{‏قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا‏}‏ معنى هذا أن اللّه تعالى مكَّنه منهم، وحكَّمه فيهم وأظفره بهم، وخيّره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه، فيما أبداه عدله وبيانه في قوله‏:‏ ‏{‏أما من ظلم‏}‏ أي استمر على كفره وشركه بربه ‏{‏فسوف نعذبه‏}‏، قال قتادة‏:‏ بالقتل، وقال السدي‏:‏ كان يحمي لهم النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا‏.‏ وقال وهب ابن منبه‏:‏ كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم، واللّه أعلم‏.‏ وقوله ‏{‏ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا‏}‏ أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد و الجزاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأما من آمن‏}‏ أي تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة اللّه وحده لا شريك له ‏{‏فله جزاء الحسنى‏}‏ أي في الدار الآخرة عند اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏وسنقول له من أمرنا يسرا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معروفاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89 ‏:‏ 91‏)‏

‏{‏ ثم أتبع سببا ‏.‏ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ‏.‏ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مرّ بأُمّة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم‏.‏ وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض، طولها والعرض، حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجدها تطلع على قوم‏}‏ أي أمة ‏{‏لم نجعل لهم من دونها سترا‏}‏ أي ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك‏.‏ وقال الحسن في قوله اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لم نجعل لهم من دونها سترا‏}‏ قال‏:‏ إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم ‏"‏أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري‏"‏، وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا‏}‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ علماً، أي نحن مطلعون على جميع أحواله، وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى ‏{‏لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 96‏)‏

‏{‏ ثم أتبع سبباة ‏.‏ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ‏.‏ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ‏.‏ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ‏.‏ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين ‏{‏ثم أتبع سببا‏}‏ أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة، يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏(‏أن اللّه تعالى يقول‏:‏ يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك، فيقول‏:‏ ابعث بعث في النار، فيقول‏:‏ وما بعث النار‏؟‏ فيقول‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، فقال‏:‏ إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد، عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ولد نوح ثلاثة‏:‏ سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك‏)‏، قال بعض العلماء‏:‏ هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، وقال، إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة، وقد ذكر ابن جرير ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا‏}‏ أي لاستعجام كلامهم، وبعدهم عن الناس، ‏{‏قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أجراً عظيماً، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير ‏{‏ما مكّني فيه ربي خير‏}‏ أي إنّ الذي أعطاني اللّه من الملك والتمكين خيرٌ لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام‏:‏ ‏{‏أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم‏}‏ الآية‏.‏ وهكذا قال ذو القرنين، الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي بعملكم وآلات البناء ‏{‏أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد‏}‏ والزبر، جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏"‏وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه ‏{‏حتى إذا ساوى بين الصدفين‏}‏ أي وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً ‏"‏قال السيوطي عن الضحّاك‏:‏ هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏{‏قال انفخوا‏}‏ أي أجّج عليه النار، حتى إذا صار كله ناراً ‏{‏قال آتوني أفرغ عليه قطرا‏}‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ هو النحاس وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة ، زاد بعضهم المذاب، ويستشهد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأسلنا له عين القطر‏}‏، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏انعته لي‏)‏، قال كالبرد المحبّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قال‏:‏ ‏(‏قد رأيته‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير وهو حديث مرسل‏"‏، وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتونه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد،

ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شاهق، لا يستطاع، ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب، ثم قال تعالى‏:‏

 الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 99‏)‏

‏{‏ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ‏.‏ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ‏.‏ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج، إنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه، فقال‏:‏ ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا‏}‏، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم، ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد اللّه أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء اللّه، فستثني فيعودون إليه، وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث اللّه عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكر شكراً من لحومهم ودمائهم‏)‏ ‏"‏وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي‏:‏ إسناده جيد قوي، واختار ابن كثير أن يكون موقوفاً‏"‏، ففي رفعه نكارة، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد ما قلناه، من أنهم لم يتمكنوا من نقبه، ومن نكارة هذا المرفوع، قول الإمام أحمد، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت‏:‏ استيقظ النبي صلى اللّه عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم إذا كثر الخبث‏)‏‏.

‏{‏قال هذا رحمة من ربي‏}‏ أي لما بناه ذو القرنين ‏{‏قال هذا رحمة من ربي‏}‏، أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد ‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏}‏ أي إذا اقترب الوعد الحق ‏{‏جعله دكاء‏}‏ أي ساواه بالأرض، تقول العرب‏:‏ ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا‏}‏ أي مساوياً للأرض، وقال عكرمة في قوله ‏{‏فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء‏}‏ قال‏:‏ طريقاً كما كان، ‏{‏وكان وعد ربي حقا‏}‏ أي كائناً لا محالة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتركنا بعضهم‏}‏ أي الناس ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم، ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي، في قوله‏:‏ ‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏}‏ قال‏:‏ ذاك حين يخرجون على الناس، وهذا كله قبل يوم القيامة، وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه عند قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق‏}‏ الآية‏.‏ وهكذا قال ههنا، ‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏}‏ قال‏:‏ هذا أول يوم القيامة، ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏ على أثر ذلك ‏{‏فجمعناهم جمعا‏}‏، وقال آخرون‏:‏ بل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏}‏، قال‏:‏ إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وقوله‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏، والصور كما جاء في الحديث، قون ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفي الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً‏:‏ ‏(‏كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، واستمع متى يؤمر‏)‏، قالوا‏:‏ كيف نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، على اللّه توكلنا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فجمعناهم جمعا‏}‏ أي أحضرنا الجميع للحساب ‏{‏قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم‏}‏، ‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏100 ‏:‏ 102‏)‏

‏{‏ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ‏.‏ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ‏.‏ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة‏:‏ أنه يعرض عليهم جهنم، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والجزن لهم، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن ابن مسعود‏"‏، ثم قال مخبراً عنهم ‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري‏}‏ أي تغافلوا وتعاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال‏:‏ ‏{‏ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين‏}‏، وقال ههنا ‏{‏وكانوا لا يستطيعون سمعا‏}‏ أي لا يعقلون عن اللّه أمره ونهيه، ثم قال‏:‏ ‏{‏أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء‏}‏ أي اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا‏}‏ ولهذا أخبر اللّه تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏ 106‏)‏

‏{‏ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ‏.‏ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ‏.‏ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ‏.‏ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ‏}‏

عن مصعب قال‏:‏ سألت أبي، يعني سعد بن أبي وقاص، عن قول اللّه‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا‏}‏ أهم الحرورية‏؟‏ قال‏:‏ لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا‏:‏ لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي اللّه عنه يسميهم بالفاسقين ‏"‏أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير‏"‏، وقال علي بن أبي طالب والضحّاك وغير واحد‏:‏ هم الحرورية، ومعنى هذا عن علي رضي اللّه عنه، أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، وإنما هي عامة في كل من عبد اللّه على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا‏}‏، وقال في هذه الآية الكريمة ‏{‏قل هل ننبئكم‏}‏ أي نخبركم ‏{‏بالأخسرين أعمالا‏}‏، ثم فسرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا‏}‏ أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ‏{‏وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏}‏ أي يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون، وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه‏}‏‏:‏ أي جحدوا آيات اللّه في الدينا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله وكذبوا بالدار الآخرة، ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}‏ أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير، روى البخاري، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إن شئتم ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}‏‏)‏، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها‏)‏، قال قرأ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}‏، عن عبد اللّه بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا بريدة هذا ممن لا يقيم اللّه لهم يوم القيامة وزناً‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار‏"‏، وعن كعب قال‏:‏ يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة، اقرأوا‏:‏ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير في تفسيره‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا‏}‏ أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات اللّه ورسله هزواً استهزأوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏107 ‏:‏ 108‏)‏

‏{‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ‏.‏ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ‏}‏

يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا باللّه ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أن لهم جنات الفردوس، قال مجاهد‏:‏ هو البستان بالرومية، وقال الضحّاك‏:‏ هو البستان الذي فيه شجر الأعناب، وقال قتادة‏:‏ الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا سألتم اللّه الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نزلا‏}‏ أي ضيافة فإن النزل الضيافة، وقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبداً، ‏{‏لا يبغون عنها حولا‏}‏ أي لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر‏:‏

فحلّت سويدا القلب لا أنا باغياً * سواها، ولا عن حبها أتحول‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يبغون عنها حولا‏}‏ تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً، ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏109‏)‏

‏{‏ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات اللّه وحكمه وآياته الدالة عليه، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك ‏{‏ولو جئنا بمثله‏}‏ أي بمثل البحر آخر ثم آخر، وهلم جراً، بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه إن اللّه عزيز حكيم‏}‏، وقال الربيع بن أنَس‏:‏ إن مثل علم العباد كلهم في علم اللّه كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل اللّه ذلك‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي‏}‏ ‏"‏أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود‏:‏ أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا‏:‏ سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح - إلى - وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏، وقال اليهود‏:‏ أوتينا علما كثيراً أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فنزلت‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي‏}‏ الآية‏"‏يقول‏:‏ لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات اللّه، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات اللّه قائمة لا يفنيها شيء، لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏110‏)‏

‏{‏ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ‏}‏

يقول تعالى لرسوله محمد صلوات اللّه وسلامه عليه ‏{‏قل‏}‏ لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم ‏{‏إنما أنا بشر مثلكم‏}‏، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني اللّه عليه، وإنما أخبركم ‏{‏أنما إلهكم‏}‏ الذي أدعوكم إلى عبادته ‏{‏إله واحد‏}‏ لا شريك له، ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه‏}‏ أي ثوابه وجزاءه الصالح ‏{‏فليعمل عملا صالحا‏}‏ ما كان موافقاً لشرع اللّه، ‏{‏ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏}‏ وهو الذي يراد به وجه اللّه وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بدَّ أن يكون خالصاً للّه، صواباً على شريعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد روي عن طاووس قال، قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إني أقف المواقف أريد وجه اللّه، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً، حتى نزلت هذه الآية ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏}‏، وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، فقال عبادة‏:‏ ليس له شيء، إن اللّه تعالى يقول‏:‏ أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن شداد بن أوس رضي اللّه عنه أنه بكى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال شيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأبكاني‏.‏ سمعت رسول اللّه يقول‏:‏ ‏(‏أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ أتشرك أمتك من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه‏"‏‏.‏ حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يرويه عن اللّه عزَّ وجلَّ أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك‏)‏‏.‏ حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة أنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا جمع اللّه الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد‏:‏ من كان أشرك في عمل عمله للّه أحداً فليطلب ثوابه من عند غير اللّه، فإن اللّه أغنى الشركاء عن الشرك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي وابن ماجه‏"‏‏.‏ حديث آخر ‏:‏ عن أنَس رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعرض أعمال بني آدم بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة، في صحف مختمة، فيقول اللّه‏:‏ ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة‏:‏ يا رب، واللّه ما رأينا منه إلا خيراً، فيقول‏:‏ إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ أبو بكر البزار‏"‏‏.‏ وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي‏"‏‏.‏